سورة الحج - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(10)}
{ذلك..} [الحج: 10] يعني خِزْي الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة بما قدَّمتْ، وبما اقترفت يداك، لا ظُلْماً منّا ولا اعتداء، فأنت الذي ظلمتَ نفسك، كما قال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118].
وهل أخذناهم دون إنذار، ودون أن نُجرِّم هذا الفعل؟ لأنك لا تعاقب شخصاً على ذنب إلا إذا كنتَ قد نبَّهته إليه، وعرَّفته بعقوبته، فإنْ عاقبته دون علمه بأن هذا ذنب وهذه جريمة فقد ظلمتَه؛ لذلك فأهل القانون يقولون: لا عقوبةَ إلا بتجريم، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ.
وقد جاءكم النص الذي يُبيِّن لكم ويُجرِّم هذا الفعل، وقد أبلغتُكم الرسل، وسبق إليكم الإنذار، كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ..} [الحج: 10] فهل الذنوب كلها تقديمُ اليد فقط؟
الذنوب: إما أقوال، وإما أفعال، وإما عمل من أعمال القلب، كالحقد مثلاً أو النفاق.. إلخ لكن في الغالب ما تُزَاول الذنوب بالأيدي.
ثم يقول تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] ظلاَّم: صيغة مبالغة من الظلم، تقول: ظالم. فإنْ أردتَ المبالغة تقول: ظلاَّم، كما تقول: فلان آكل وفلان أكُول، فالفعل واحد، لكن ما ينشأ عنه مختلف، والمبالغة في الفعل قد تكون في الفعل نفسه أو في تكراره، فمثلاً قد تأكل في الوجبة الواحدة رغيفاً واحداً، وقد تأكل خمسة أرغفة هذه مبالغة في الوجبة الواحدة، فأنت تأكل ثلاث وجبات، لكن تبالغ في الوجبة الواحدة، وقد تكون المبالغة في عدد الوجبات فتأكل في الوجبة رغيفاً واحداً، لكن تأكل خمس وجبات بدلاً من ثلاث. فهذه مبالغة بتكرار الحدث.
وصيغة المبالغة لها معنى في الإثبات ولها معنى في النفي: إذا قُلْتَ: فلان أكول وأثبتَّ له المبالغة فقد أثبتَّ له أصل الفعل من باب أَوْلَى فهو آكل، وإذا نفيتَ المبالغة فنَفْي المبالغة لا ينفي الأصل، تقول: فلان ليس أكولاً، فهذا لا ينفي أنه آكل. فإذا طبَّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى(ظالم) حاشا لله، وهنا نقول: هناك آيات أخرى تنفي الفعل، كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} [الزخرف: 76].
كما أن صيغة المبالغة هنا جاءت مضافة للعبيد، فعلى فرض المبالغة تكون مبالغة في تكرار الحدث {بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] ظلم هذا، وظلم هذا، فالمظلوم عبيد، وليس عبداً واحداً.
والظلم في حقيقته أن يأخذ القويُّ حَقَّ الضعيف، ويكون الظلم على قَدْر قوة الظالم وقدرته، وعلى هذا إنْ جاء الظلم من الله تعالى وعلى قَدْر قوته وقدرته فلا شكَّ أنه سيكون ظُلْماً شديداً لا يتحمله أحد، فلا نقول- إذن- ظالم بل ظلام، وهكذا يتمشى المعنى مع صيغة المبالغة.
فالحق سبحانه ليس بظلام للعبيد؛ لأنه بيَّن الحلال والحرام، وبيَّن الجريمة ووضع لها العقوبة، وقد بلَّغَتْ الرسل من بداية الأمر فلا حُجَّةَ لأحد.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ..}


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11)}
قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ..} [الحج: 11] العبادة: أنْ تطيع الله فيما أمر فتنفذه، وتطيعه فيما نهى فتجتنبه، بعض الناس يعبد الله هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور مستمر، فإذا أصابه شَرٌّ أو وقع به مكروه ينقلب على وجهه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ..} [الحج: 11].
والحق سبحانه يريد من عبده أنْ يُقبل على عبادته في ثبات إيمان، لا تزعزعه الأحداث، ولا تهز إيمانه فيتراجع، ربك يريدك عبداً له في الخير وفي الشر، في السراء وفي الضراء، فكلاهما فتنة واختبار، وما آمنتَ بالله إلا لأنك علمتَ أنه إله حكيم عادل قادر، ولابد أنْ تأخذ ما يجري عليك من أحداث في ضوء هذه الصفات.
فإنْ أثقلتْك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إنْ لم تكن لك فلأولادك من بعدك، فلعلهم إنْ وجدوك في سعة وفي خير طَمِعُوا وفسدوا وطَغَوْا، ولعل حياة الضيق وقِلَّة الرزق وتعبك لتوفر متطلبات الحياة يكون دافعاً لهم.
واقرأ قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6- 7] وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
لا بُدَّ أنْ تعرف هذه الحقائق، وأنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه عليك، سواء أكان نعيماً أو بُؤْساً، فإنْ أصابك مرض أقعدك في بيتك فَقُلْ: ماذا حدث خارج البيت، أبعدني الله عنه وعافاني منه؟ فلعل الخير فيما تظنه شراً، كما قال تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ..} [البقرة: 216].
وقد أجرى علماء الإحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا، فوجدوا الإخوة في البيت الواحد، وفي ظروف بيئية واحدة وأب واحد، وأم واحدة، حتى التعليم في المدرس على مستوى واحد، ومع ذلك تجد أحد الأبناء مستقيماً ملتزماً، وتجد الآخر على النقيض، فلمَّا بحثوا في سبب هذه الظاهرة وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته وطفولته في وقت كان والده مريضاً ويلازم بيته لمدة ست سنوات، فأخذ هذا الولد أكبر قِسْط من الرعاية والتربية، ولم يجد الفرصة للخروج من البيت أو الاختلاط برفاق السوء.
وفي نموذج آخر لأحد الأبناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في فترة تربيته وتنشئته كان تاجراً، وكان كثير الأسفار، ومع ذلك كان يُغْدِق على أسرته، فتربَّى الولد في سَعَة من العيش، بدون مراقبة الأب.
وفي نموذج آخر وجدوا أخوين: أحدهما متفوق، والآخر فاشل، ولما بحثوا أسباب ذلك رغم أنهما يعيشان ظروفاً واحدة وجدوا أن الابن المتفوق صحته ضعيفة، فمال إلى البيت والقراءة والاطلاع، وكان الآخر صحيحاً وسيماً، فمال إلى حياة الترف، وقضى معظم وقته خارج البيت.
والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
إذن: فالابتلاءات لها مغانم، ومن ورائها حِكَم؛ لأنها ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك، وليست من سَعْيك ولا من عمل يدك، وما دامت كذلك فارْضَ بها، واعبد الله بإخلاص وإيمان ثابت في الخير وفي الشر.
ومعنى: {يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ..} [الحج: 11] والحرف: هو طرف الشيء، كأن تدخل فتجد الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين، وهذا عادةً لا يكون معه تمكُّن واطمئنان، كذلك مَنْ يعبد الله على حرف يعني: لم يتمكَّن الإيمان من قلبه، وسرعان ما يُخرِجه الابتلاء عن الإيمان، لأنه عبد الله عبادةً غير متمكنة باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يُجريه على عبده.
والآية لم تترك شيئاً من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر.
وتأمل قول الله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ..} [الحج: 11] وكذلك: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ..} [الحج: 11] فأنت لا تقول: أصبتُ الخيرَ، إنما الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك، فأنت لا تبحث عن رزقك بقدر ما يبحث هو عنك؛ لذلك يقول تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ..} [الطلاق: 2- 3].
ويقول أهل المعرفة: رِزْقك أعلم بمكانك منك بمكانه، يعني يعرف عنوانك أما أنت فلا تعرف عنوانه، بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فلا تُرزَق منه بشيء، وقد ترى الزرع في الحقول زاهياً تأمل فيه المحصول الوفير، وتبني عليه الآمال، فإذا بعاصفة أو آفة تأتي عليه، فلا تُرزَق منه حتى بما يسدُّ الرَّمَق.
ولنا عبرة ومثَلٌ في ابن أُذَيْنة حين ضاقت به الحال في المدينة، فقالوا له: إن لك صحبة بهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فاذهب إليه ينالك من خير الخلافة، وفعلاً سافر ابن أذينة إلى صديقه، وضرب إليه أكباد الإبل حتى الشام، واستأذن فأَذن له، واستقبله صاحبه، وسأله عن حالة فقال: في ضيق وفي شدة. وكان في مجلس الخليفة علماء فقال له: يا عروة ألست القائل- وكان ابن أُذَيْنَة شاعراً:
لَقَد عَلِمت ومَا الإسْرَافُ مِنْ خُلُقِي *** أَنَّ الذي هُوَ رِزْقي سَوْفَ يأْتِينِي؟
وهنا أحسَّ عروة أن الخليفة كسر خاطره، وخَيَّب أمله فيه، فقال له: جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين، لقد ذكَّرت مني ناسياً، ونبَّهْتَ مني غافلاً، ثم انصرف.
فلما خرج ابن أُذيْنة من مجلس الخليفة، وفكَّر الخليفة في الموقف وأنَّب نفسه على تصُّرفه مع صاحبه الذي قصد خَيْره، وكيف أنه رَدَّه بهذه الصورة، فأراد أنْ يُصلِح هذا الخطأ، فأرسل إليه رسولاً يحمل الهدايا الكثيرة، إلا أن رسول الخليفة كلما تبع ابن أُذَيْنة في مكان وجده قد غادره إلى مكان آخر، إلى أنْ وصل إلى بيته، فطرق الباب، وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان منه، وهذه عطاياه وهداياه.
وهنا أكمل ابن أُذيْنة بيته الأول، فقال:
أسْعَى لَهُ فَيُعَنَّيني تطلُّبه *** وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لاَ يُعنَّيني
كذلك نلحظ في هذه الآية: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ..} [الحج: 11] ولم يقابل الخير بالشر، إنما سماها(فتْنَة) أي: اختبار وابتلاء؛ لأنه قد ينجح في هذا الاختبار فلا يكون شراً في حَقِّه.
ومعنى: {انقلب على وَجْهِهِ} [الحج: 11] يعني: عكس الأمر، فبعد أنْ كان عابداً طائعاً انقلب إلى الضِّدِّ فصار عاصياً {خَسِرَ الدنيا والأخرة..} [الحج: 11] وخسْران الإنسان لعبادته خسران كبيرٌ لا يُجْبَر ولا يُعوِّضه شيء؛ لذلك يقول بعدها: {ذلك هُوَ الخسران المبين} [الحج: 11] فهل هناك خُسْران مبين، وخسران غير مبين؟
نعم: الخسران هو الخسارة التي تُعوَّض، أما الخسارة التي لا عِوضَ لها فهذه هي الخسران المبين الذي يلازم الإنسان ولا ينفكُّ عنه، وهو خُسْران لا يقتصر على الدنيا فقط فيمكن أنْ تُعوِّضه أو تصبر عليه، إنما يمتد للآخرة حيث لا عِوضَ لخسارتها ولا صَبْر على شِدَّتها. فالخسران المبين أي: المحيط الذي يُطوِّق صاحبه.
لذلك نقول لمن فقد عزيزاً عليه، كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلاً: إنْ كان الفقيد حبيباً وغالياً فبيعوه غالياً وادخلوا به الجنة، ذلك حين تصبرون على فَقْده وتحتسبونه عند الله، وإنْ كنتم خسرتم به الدنيا فلا تخسروا به الآخرة، فإنْ لطَمْنا الخدود وشَقَقْنَا الجيوب، واعترضنا على قَدَر الله فيه فقد خسرنَا به الدنيا والآخرة.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن).
والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب الإيمان، ومرحلة من مراحل اليقين في نفس المؤمن، وهي بداية وعَتَبة يتلوها مراحل أخرى ومراقٍ، حَسْب قوة الإيمان.
اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزُّهَّاد، وكيف كانوا يتباروْنَ في الوصول إلى هذه المراقي الإيمانية، ويتنافسون فيها، لا عن مُبَاهاة ومفاخرة، إنما عن نية خالصة في الرُّقي الإيماني.
يسأل أحد هؤلاء المتمكِّنين صاحبه: كيف حال الزهاد في بلادكم؟ فقال: إن أصابنا خير شكرنا، وإن أصابنا شَرٌّ صبرنا، فضحك الشيخ وقال: وما في ذلك؟! إنه حال الكلاب في بَلْخ. أما عندنا: فإنْ أصابنا خير آثرنا، وإنْ أصابنا شَرٌّ شكرنا.
وهذه ليست مباهاة إنما تنافس، فكلاً الرجلين زاهد سالك لطريق الله، يرى نفسه محسوباً على هذا الطَريق، فيحاول أنْ يرتقيَ فيه إلى أعلى مراتبه، فإياك أنْ تظن أن الغاية عند الصبر على البلاء والشُّكْر على العطاء، فهذه البداية وبعدها منازل أعْلَى ومَراقٍ أسمى لمن طلبَ العُلاَ، وشمَّر عن ساعد الجد في عبادة ربه.
انظر إلى أحد هؤلاء الزُّهَّاد يقول لصاحبة: أَلاَ تشتاق إلى الله؟ قال: لا، قال مُتعجباً: وكيف ذلك؟ قال: إنما يُشتاق لغائب، ومتى غاب عني حتى أشتاق إليه؟ وهكذا تكون درجات الإيمان وشفافية العلاقة بين العبد وربه عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد الله على حرف: {يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ..}.


{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ(12)}
معنى: {مَا لاَ يَضُرُّهُ..} [الحج: 12] هل الصنم الذي يعبده الكافر من دون الله يمكن أن يضره؟ لا، الصنم لا يضر، إنما الذي يضره حقيقة مَنْ عانده وانصرف عن عبادته، تضره الربوبية التي يعاندها والمجَازي الذي يجازيه بعمله، إذن: فما معنى: {يَضُرُّهُ..} [الحج: 12] هنا؟
المعنى: لا يضره إن انصرف عنه ولم يعبده، ولا ينفعه إنْ عبده: {ذلك هُوَ الضلال البعيد} [الحج: 12] نعم ضلال: لأن الإنسان يعبد ويطيع مَنْ يرجو نفعه في أيِّ شيء، أو يخشى ضره في أيِّ شيء.
وقد ذكرنا سابقاً قول بعض العارفين:(واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه)، ولو قلنا هذه المقولة لأبنائنا في الكتب الدراسية، واهتمَّ بها القائمون على التربية لما أغرى الأولاد بعضهم بعضاً بالفساد، ولوقفَ الولد يفكر مرة وألف مرة في توجيهات ربه، ونصائح أبيه وأمه، وكيف أنه سيترك توجيهات مَنْ يحبونه ويخافون عليه ويرجُون له الخير إلى إغراء صديق لا يعرف عنه وعن أخلاقه شيئاً.
لا بُدَّ أنْ نُطعِّم أبناءنا مبادئ الإسلام، ليعرف الولد منذ صِغَره مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه، ومَنْ هو أَوْلَى بطاعته.
وتلحظ في الآية أن الضر سابق للنفع: {مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ..} [الحج: 12] لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة؛ لأن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه، والنفع يزيدك ويضيف إليك، أما الضر فينقصك، لذلك خَيْر لك أنْ تظل كما أنت لا تنقص ولا تزيد، فإذا وقفتَ أمام أمرين: أحدهما يجلب خيراً، والآخر يدفع شراً، فلا شَكَّ أنك ستختار دَفْع الشر أولاً، وتشتغل بدَرْءِ المفسدة قبل جَلْب المصلحة.
وضربنا لذلك مثلاً: هَبْ أن إنساناً سيرمي لك بتفاحة، وآخر سيرميك بحجر في نفس الوقت، فماذا تفعل؟ تأخذ التفاحة، أو تتقي أَذى الحجر؟ هذا هو معنى (دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة).

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8